قدوة

هجرة الأخلاق وتوحش الإنسان: رحلة في الانحدار الأخلاقي للمجتمعات

في ظل الحضارة المادية الجارفة التي تسود عالمنا اليوم، أصبح الإنسان أسير مصلحته وأنانيته، وسجين جشعه وطمعه. تتجلى ظاهرة هجرة الأخلاق وتوحش الإنسان في مظاهر متعددة من حياتنا اليومية، مما يستدعي وقفة تأملية جادة لفهم أسباب هذا الانحدار وتداعياته على مستقبل البشرية. عندما تهاجر القيم الأخلاقية من المجتمع، يتحول الإنسان إلى كائن متوحش يسعى لتحقيق مصالحه الشخصية على حساب الآخرين، متجاهلاً كل القيم الإنسانية النبيلة.
دروس من التاريخ: انهيار الأخلاق وسقوط الحضارات
يقدم لنا التاريخ دروساً بليغة عن العلاقة الوثيقة بين انهيار القيم الأخلاقية وسقوط الحضارات. فالإمبراطورية الرومانية، على سبيل المثال، لم تسقط بسبب قوة أعدائها الخارجيين فحسب، بل كان للانحلال الأخلاقي والفساد الداخلي دور محوري في تسريع انهيارها. عندما طغت الملذات المادية والترف على قيم العمل والتضحية، وعندما أصبح الفساد والرشوة جزءاً من النسيج الاجتماعي، بدأت الإمبراطورية في التداعي من الداخل.
صورة تمثل انهيار الإمبراطورية الرومانية كمثال على هجرة الأخلاق

يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: “إن الترف مؤذن بخراب العمران”، مشيراً إلى أن انغماس المجتمعات في الملذات المادية وابتعادها عن القيم الأخلاقية يعجل بانهيارها. وهذا ما نراه في الصراعات المعاصرة، حيث تتجلى وحشية الإنسان عندما تغيب البوصلة الأخلاقية، وتصبح المصلحة الذاتية هي المعيار الوحيد للسلوك.

التحليل النفسي للطبيعة البشرية في غياب القيود الأخلاقية

تكشف الدراسات النفسية أن الإنسان بطبيعته يميل إلى تحقيق مصالحه الذاتية، وأن القيود الأخلاقية والاجتماعية هي التي تهذب هذا الميل وتوجهه نحو المصلحة العامة. عندما تضعف هذه القيود أو تختفي، تظهر النزعات الأنانية والعدوانية بشكل أكثر وضوحاً. يشير علماء النفس إلى أن الضمير الأخلاقي يتشكل من خلال التنشئة الاجتماعية والتربية الدينية والأخلاقية.

وقد أثبتت تجارب علمية عديدة، مثل تجربة ستانفورد للسجن، أن الإنسان العادي يمكن أن يتحول إلى شخص قاسٍ ومتوحش عندما يوضع في بيئة تفتقر إلى الضوابط الأخلاقية. هذا يفسر كيف يمكن لأشخاص عاديين أن يرتكبوا أفعالاً وحشية في ظروف معينة، مثل الحروب والصراعات، عندما تنهار المنظومة الأخلاقية.

“إن الإنسان بلا أخلاق كالسفينة بلا بوصلة، تتقاذفها الأمواج في كل اتجاه.”
– مثل عربي

المنظور الفلسفي الإسلامي والعربي للأخلاق

قدم الفلاسفة المسلمون والعرب إسهامات ثرية في مجال الفلسفة الأخلاقية. يرى ابن خلدون أن الأخلاق هي أساس العمران البشري، وأن انهيار الأخلاق يؤدي حتماً إلى انهيار المجتمعات. بينما يؤكد الفارابي في “المدينة الفاضلة” على أن السعادة الحقيقية لا تتحقق إلا من خلال الفضيلة والأخلاق، وأن المجتمع المثالي هو الذي تسوده القيم الأخلاقية.

يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]. تصور هذه الآية الكريمة بدقة حال الإنسان عندما يتخلى عن القيم الأخلاقية، فيسعى في الأرض فساداً، مهلكاً للحرث والنسل، غير مبالٍ بمصالح الآخرين أو بالمصلحة العامة.

مفهوم الأخلاق عند ابن خلدون

يربط ابن خلدون بين الأخلاق وقوة الدولة، معتبراً أن انحدار الأخلاق مؤشر على قرب سقوط الحضارات. يقول: “إذا فسدت الأخلاق فسد العمران”، مؤكداً على العلاقة الوثيقة بين المنظومة الأخلاقية واستقرار المجتمعات.

المدينة الفاضلة عند الفارابي

يرى الفارابي أن المدينة الفاضلة هي التي يتعاون أهلها على تحقيق السعادة الحقيقية المبنية على الفضيلة والأخلاق، وأن غياب الأخلاق يحول المدينة إلى “مدينة جاهلة” تسعى فقط لتحقيق اللذات المادية.

مظاهر توحش الإنسان في العصر الحديث

في عصرنا الحديث، تتجلى ظاهرة هجرة الأخلاق وتوحش الإنسان في مظاهر متعددة، من سمية وسائل التواصل الاجتماعي إلى جشع الشركات الكبرى. أصبحت منصات التواصل الاجتماعي ساحات للتنمر والكراهية، حيث يشعر الناس بحرية أكبر في إطلاق تصريحات عدوانية تحت ستار الهوية المجهولة.

كما أن الجشع المؤسسي للشركات الكبرى، التي تضحي بالبيئة والمجتمعات المحلية في سبيل تحقيق أرباح أكبر، يمثل نموذجاً صارخاً لتوحش الإنسان في ثوب مؤسسي. تدمير الغابات المطيرة، واستغلال العمال في البلدان النامية، والتلاعب بالمستهلكين من خلال الإعلانات المضللة، كلها مظاهر لانحدار القيم الأخلاقية في عالم الأعمال.

دراسات حالة لتوحش الإنسان المعاصر

  • فظائع الحرب الأهلية السورية: حيث انهارت المنظومة الأخلاقية تماماً، وارتكبت جميع الأطراف انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، من استهداف المدنيين إلى استخدام الأسلحة الكيميائية
  • خوارزميات فيسبوك للتطرف: التي تعزز المحتوى المتطرف والمثير للانقسام لزيادة المشاركة، مما يؤدي إلى استقطاب المجتمعات وتأجيج الكراهية
  • تدمير غابات الأمازون: حيث تقوم الشركات الكبرى بإزالة مساحات شاسعة من الغابات المطيرة لزراعة فول الصويا وتربية الماشية، متجاهلة الآثار البيئية الكارثية

سبل الحفاظ على الأخلاق في المجتمع المعاصر

رغم قتامة المشهد، إلا أن هناك سبلاً للحفاظ على القيم الأخلاقية في المجتمع المعاصر وإعادة بناء المنظومة الأخلاقية. يبدأ ذلك من التربية الأسرية السليمة، التي تغرس القيم الأخلاقية في نفوس الأطفال منذ الصغر، وتعلمهم التمييز بين الصواب والخطأ.

كما أن تعزيز دور المؤسسات التعليمية في التربية الأخلاقية، وليس فقط في نقل المعرفة، يمثل ركيزة أساسية في بناء مجتمع أخلاقي. ينبغي أن تتضمن المناهج التعليمية مقررات في الأخلاق والقيم، وأن تشجع على التفكير النقدي والحوار البناء.

التربية الأسرية

تعزيز دور الأسرة في غرس القيم الأخلاقية من خلال القدوة الحسنة والحوار المفتوح مع الأبناء حول القضايا الأخلاقية.

الإصلاح التعليمي

تطوير مناهج تعليمية تركز على القيم الأخلاقية والتفكير النقدي، وتشجع الطلاب على المشاركة في أنشطة خدمة المجتمع.

المسؤولية المؤسسية

تعزيز ثقافة المسؤولية الاجتماعية للشركات، ومكافأة المؤسسات التي تلتزم بالمعايير الأخلاقية في ممارساتها.

يقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207]. هذه الآية الكريمة تذكرنا بأن هناك دائماً من يضحي بمصالحه الشخصية من أجل القيم والمبادئ السامية، وأن هؤلاء هم صمام الأمان للمجتمعات في مواجهة موجات الانحدار الأخلاقي.

إن ظاهرة هجرة الأخلاق وتوحش الإنسان ليست قدراً محتوماً، بل هي نتيجة لخيارات بشرية يمكن تغييرها. تتطلب مواجهة هذه الظاهرة جهداً جماعياً على مستوى الأفراد والمؤسسات والمجتمعات، لإعادة الاعتبار للقيم الأخلاقية في عالم طغت عليه المادية.كما يقول المثل العربي: “الأخلاق كالبذور، إذا زرعتها حصدت ثماراً طيبة”. لنبدأ جميعاً بزراعة بذور الأخلاق في أنفسنا وفي من حولنا، لنحصد غداً مجتمعاً أكثر إنسانية وأقل توحشاً، مجتمعاً تسوده قيم الرحمة والتعاون، بدلاً من الأنانية والجشع والعدوان.
Exit mobile version