
يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: “إن الترف مؤذن بخراب العمران”، مشيراً إلى أن انغماس المجتمعات في الملذات المادية وابتعادها عن القيم الأخلاقية يعجل بانهيارها. وهذا ما نراه في الصراعات المعاصرة، حيث تتجلى وحشية الإنسان عندما تغيب البوصلة الأخلاقية، وتصبح المصلحة الذاتية هي المعيار الوحيد للسلوك.
التحليل النفسي للطبيعة البشرية في غياب القيود الأخلاقية

وقد أثبتت تجارب علمية عديدة، مثل تجربة ستانفورد للسجن، أن الإنسان العادي يمكن أن يتحول إلى شخص قاسٍ ومتوحش عندما يوضع في بيئة تفتقر إلى الضوابط الأخلاقية. هذا يفسر كيف يمكن لأشخاص عاديين أن يرتكبوا أفعالاً وحشية في ظروف معينة، مثل الحروب والصراعات، عندما تنهار المنظومة الأخلاقية.
“إن الإنسان بلا أخلاق كالسفينة بلا بوصلة، تتقاذفها الأمواج في كل اتجاه.”
المنظور الفلسفي الإسلامي والعربي للأخلاق
قدم الفلاسفة المسلمون والعرب إسهامات ثرية في مجال الفلسفة الأخلاقية. يرى ابن خلدون أن الأخلاق هي أساس العمران البشري، وأن انهيار الأخلاق يؤدي حتماً إلى انهيار المجتمعات. بينما يؤكد الفارابي في “المدينة الفاضلة” على أن السعادة الحقيقية لا تتحقق إلا من خلال الفضيلة والأخلاق، وأن المجتمع المثالي هو الذي تسوده القيم الأخلاقية.

يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]. تصور هذه الآية الكريمة بدقة حال الإنسان عندما يتخلى عن القيم الأخلاقية، فيسعى في الأرض فساداً، مهلكاً للحرث والنسل، غير مبالٍ بمصالح الآخرين أو بالمصلحة العامة.
مفهوم الأخلاق عند ابن خلدون
يربط ابن خلدون بين الأخلاق وقوة الدولة، معتبراً أن انحدار الأخلاق مؤشر على قرب سقوط الحضارات. يقول: “إذا فسدت الأخلاق فسد العمران”، مؤكداً على العلاقة الوثيقة بين المنظومة الأخلاقية واستقرار المجتمعات.
المدينة الفاضلة عند الفارابي
يرى الفارابي أن المدينة الفاضلة هي التي يتعاون أهلها على تحقيق السعادة الحقيقية المبنية على الفضيلة والأخلاق، وأن غياب الأخلاق يحول المدينة إلى “مدينة جاهلة” تسعى فقط لتحقيق اللذات المادية.
مظاهر توحش الإنسان في العصر الحديث

كما أن الجشع المؤسسي للشركات الكبرى، التي تضحي بالبيئة والمجتمعات المحلية في سبيل تحقيق أرباح أكبر، يمثل نموذجاً صارخاً لتوحش الإنسان في ثوب مؤسسي. تدمير الغابات المطيرة، واستغلال العمال في البلدان النامية، والتلاعب بالمستهلكين من خلال الإعلانات المضللة، كلها مظاهر لانحدار القيم الأخلاقية في عالم الأعمال.
دراسات حالة لتوحش الإنسان المعاصر
- فظائع الحرب الأهلية السورية: حيث انهارت المنظومة الأخلاقية تماماً، وارتكبت جميع الأطراف انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان، من استهداف المدنيين إلى استخدام الأسلحة الكيميائية
- خوارزميات فيسبوك للتطرف: التي تعزز المحتوى المتطرف والمثير للانقسام لزيادة المشاركة، مما يؤدي إلى استقطاب المجتمعات وتأجيج الكراهية
- تدمير غابات الأمازون: حيث تقوم الشركات الكبرى بإزالة مساحات شاسعة من الغابات المطيرة لزراعة فول الصويا وتربية الماشية، متجاهلة الآثار البيئية الكارثية

سبل الحفاظ على الأخلاق في المجتمع المعاصر
رغم قتامة المشهد، إلا أن هناك سبلاً للحفاظ على القيم الأخلاقية في المجتمع المعاصر وإعادة بناء المنظومة الأخلاقية. يبدأ ذلك من التربية الأسرية السليمة، التي تغرس القيم الأخلاقية في نفوس الأطفال منذ الصغر، وتعلمهم التمييز بين الصواب والخطأ.

كما أن تعزيز دور المؤسسات التعليمية في التربية الأخلاقية، وليس فقط في نقل المعرفة، يمثل ركيزة أساسية في بناء مجتمع أخلاقي. ينبغي أن تتضمن المناهج التعليمية مقررات في الأخلاق والقيم، وأن تشجع على التفكير النقدي والحوار البناء.
التربية الأسرية
تعزيز دور الأسرة في غرس القيم الأخلاقية من خلال القدوة الحسنة والحوار المفتوح مع الأبناء حول القضايا الأخلاقية.
الإصلاح التعليمي
تطوير مناهج تعليمية تركز على القيم الأخلاقية والتفكير النقدي، وتشجع الطلاب على المشاركة في أنشطة خدمة المجتمع.
المسؤولية المؤسسية
تعزيز ثقافة المسؤولية الاجتماعية للشركات، ومكافأة المؤسسات التي تلتزم بالمعايير الأخلاقية في ممارساتها.
يقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207]. هذه الآية الكريمة تذكرنا بأن هناك دائماً من يضحي بمصالحه الشخصية من أجل القيم والمبادئ السامية، وأن هؤلاء هم صمام الأمان للمجتمعات في مواجهة موجات الانحدار الأخلاقي.
